مقالات وأراء

الدكتور محمد داود يكتب : تحويل القبلة درس فى فقه المواجهة الفكرية

اختار الله من تاريخ الدعوة ومن حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مواقف وأحداثًا أنزل فيها قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، وهذا لتظل العبرة والموعظة باقية دائمة، وليتعلم المسلمون الدرس إذا ما تعرضوا لمثل هذه المواقف.

وما أحوج أمة الإسلام فى ظروفها المعاصرة، وهى تقع تحت تأثير حرب فكرية – ما أحوجها إلى إعادة القراءة الفكرية لدرس تحويل القبلة؛ لنتعلم فقه المواجهة الفكرية.

إن صناعة الزيف مسألة قديمة حديثة، وإن اختلفت الآليات والوسائل، فلكل عصر وسائله وآلياته، لكن الجوهر فى المسألة يكاد يكون واحدًا، حيث تكون صناعة الزيف قائمة على تلبيس الحق بالباطل، وبإنكار الحقائق، والتشكيك الدائم، والتحريف والتصحيف، والأسئلة الخاطئة، وأسلوب التعجيز، واختلاق التهم والمشاكل المفتعلة، … ونحو ذلك من أمور.

وبتدبر آيات سورة البقرة بشأن اليهود ومكرهم وعنادهم وإصرارهم على صناعة الزيف بكل سبيل، وكيف تكون المواجهة الفكرية؟ تظهر لنا الملامح الآتية:

-أهمية معرفة الخصم والوقوف على حقيقة فكره : تكشف آىات سورة البقرة طبيعة الخصم أولًا، وهذا أساسٌ مهم يوجهنا إليه القرآن فى إطار المواجهات الفكرية مع الخصوم، حيث ينبغى – أولًا – أن نقف على حقيقة فكر الخصوم ونتعرف على دوافعهم، فهذا يُيسر علينا اختيار الحجة البالغة معهم. وتحت هذا المعنى (معرفة الخصوم) تُحدِّثُنا آيات سورة البقرة بعد أن ذكَّرت اليهود بنعم الله عليهم فى مقابل جحودهم وعصيانهم، وهذه أهم الملامح الفكرية للمشروع اليهودى: صناعة الزيف، والتى تكشف عن طبائعهم فى معاملة الآخر:

1- تلبيس الحق بالباطل وكتمان الحق، قال تعالى ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (البقرة: 42).

2- لجوء اليهود إلى أسلوب التعجيز للأنبياء وإلى الأسئلة الخاطئة، من ذلك سؤالهم نبى الله موسى عليه السلام: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّـهَ جَهْرَةً ﴾ (البقرة: 55).

3- تبديل القول وتحريفه، قال تعالى: ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ (البقرة: 59).

وقوله تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ (البقرة: 79).

وبشأن التحريف لكلام الله يثبت القرآن أنهم قاموا بالتحريف مرتين:

أ‌- المرة الأولى فى عهد سيدنا موسى ؛ قالى تعالى: ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ (النساء: 46).

ب‌- المرة الثانية لما جاءهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن الكريم الذى يصدق ما معهم من التوراة والإنجيل، فحرفوا الآيات التى تُبشر بالنبى الخاتم والكتاب الذى معه، بعد أن استقرت زمنًا طويلًا، ويعبر القرآن عن هذه المرة تعبيرًا دقيقًا فيقول: ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾ (المائدة: 41).

وتمضى بنا الآيات لتصل إلى تحويل القبلة، ويكشف القرآن الدافع وراء هذا الإنكار وذلك التشكيك … لقد كان اليهود ينتظرون النبى الخاتم (نبى آخر الزمان) والكتاب الذى معه من الله تعالى، وكانوا يستفتحون (أى يستنصرون) بهذا النبى وذلك الكتاب (القرآن) فى حربهم مع أعدائهم، ولكن الصادم حقًّا، والذى لا يتفق مع العقل بأى سبيل، أنهم حين جاءهم النبى محمد ومعه القرآن الكريم كفروا به، قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ (البقرة: 89).

ثم تبين الآيات سبب انقلابهم رأسًا على عقب: إن النبى الخاتم الذى ينتظرونه ليس من نسل إسحاق عليه السلام وإنما من نسل إسماعيل عليه السلام ، ومعنى هذا أن النبوة خرجت من بنى إسرائيل إلى العرب، فقامت قيامتهم، وانقلبوا رأسًا على عقب … حسدًا من عند أنفسهم، قال تعالى: ﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ (البقرة: 90).

وهكذا يكشف القرآن الكريم عن الدافع وراء كفرهم وإنكارهم للنبى الخاتم والكتاب الذى معه بعد أن كانوا ينتظرونه ويستنصرون به على أعدائهم .. إنها الأنانية البالغة … والنرجسية المغرورة .. لقد أرادوا أن يحتكروا النبوة فيهم .. وليس هذا بغريب عليهم، فقد أرادوا أن يحتكروا الجنة لهم قبل ذلك، قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (البقرة: 111).

واشتدت حملة اليهود ضد النبى وضد القرآن وضد الصحابة .. ضد كل ما هو إسلامى.

وكان الله قد أمر المسلمين بالتوجه إلى بيت المقدس ليخلصهم من بقايا تعلقهم بالبيت الحرام، وما كان فيه من أصنام (هُبل فوق الكعبة، وإساف ونائلة على الصفا والمروة، وأصنام حول الكعبة) وظل المسلمون قرابة سبعة عشر شهرًا يتوجهون فى صلاتهم إلى بيت المقدس، وخلال هذه الفترة لم تنقطع حملة التشكيك وصناعة الزيف عن المسلمين.

قائلين: كيف تتبعون قِبلتنا ولا تتبعون مِلتنا؟ وكان ذلك يعز على سيدنا رسول الله ، فكان يلح فى الدعاء لربه أن يجعل قبلة المسلمين متميزة عن اليهود ويتمنى النبى صلى الله عليه وسلم أن تكون قبلة المسلمين إلى الكعبة البهية قبلة أبى الأنبياء إبراهيم .

وقُبيل تحويل القبلة أنزل الله على سيدنا رسول الله قوله: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ (البقرة: 142).

ليهيِّئ نفوس المسلمين إلى معركة فكرية قادمة إذا ما استجاب الله لنبيه وتم تحويل القبلة .. وليكشف عن طبائع الي اليهود التى لا تنقطع عن السفسطة والجدال بالباطل, ولقد لقن الله النبى والمسلمين حجتهم التى تعتمد الدليل العقلى , قال تعالى:” قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء الى صراط مستقيم البقرة142, يعنى المسلمون لا يعظمون الاشياء ولا الجهات ولا الاماكن لذاتها وانما التعظيم لأمر الله تعالى .. والله امرنا ان نتوجه الى بيت المقدس فتوجهنا, ثم امرنا ان نتوجه الى البيت الحرام فتوجهنا .         

 المؤمن يعظم امر الله تعالى: وامتن الله باستجابة دعاء النبى بتحويل القبلة(قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها) البقرة 144, وتمضى بنا الايات تكشف حملة اليهود لما تحولت القبلة , حيث قالوا ” ان عبادتكم الى بيت المقدس اصبحت باطلة بإلغاء قبلة بيت المقدس وكان البيان الربانى بالحجة البالغة, بأن المسلمين كانوا يتعبدون لله وليس لبيت المقدس (وما كان الله ليضيع ايمانكم ان الله بالناس لرءوف رحيم)البقرة143, وتكشف ايات القرآن للمسلمين عن حكم ربانية من وراء تحويل القبلة يمكن اجمالها فيما يأتى :

1- الكون كله ملك لله بما فيه المشرق والمغرب , وله سبحانه وتعالى المشيئة فى ان يوجه من يشاء الى من يشاء من مشارق الارض أومغاربها .    

2- والله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء وقت ما يشاء, ولا يسأل عما يفعل لأنه هو الخالق المدبر, وليس هذا فحسب , بل يريد بذلك اختبار عباده ومتحانهم ليستبين للمسلمين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه(تنقية الصف الاسلامى )     3-إن تغيير القبلة وتحويلها من بيت المقدس الى البيت الحرام فى مكة لا يدل على تناقض فى افعاله , لأن علم الله ازلى شامل محيط لما كان وما سيكون, فلا تزيده الوقائع علما كما هى حال البشر, وانما هذا اسلوب فى التعليم بالمواقف والاحداث .      

4- فى تحويل القبلة ابتلاء من الله ليظهر المنافق المرتاب من المؤمن الموقن .   

5- حملة اليهود ناشئة عن الحسد للمسلمين وكتمان الحق من الاعتراف بنبوة محمد التى بشرت بها التوراة .    

6- لكل أهل ملة قبلتهم التى يوجهون اليها, فلماذا ينكرون على المسلمين ان تكون لهم قبلتهم الخاصة بهم .   

7- والاخبار بقول السفهاء قبل ان يقولوهدليل على نبوة محمد.   

8- الحكمة النهائية من وراء الاحكام والاوامر والنواهى هى اتباع الشرع وامتثال الأمر, وهذا هو جوهر الدين(وما يعقلها إلا العالمون) , ( وما يذكر إلا أولو الألباب) , (فاعتبروا يا أولى الأبصار ) .

اظهر المزيد

admin

مجلس إدارة الجريدة الدكتور أحمد رمضان الشيخ محمد القطاوي رئيس التحريـر: د. أحمد رمضان (Editor-in-Chief: Dr. Ahmed Ramadan) تليفون (phone) : 01008222553  فيس بوك (Facebook): https://www.facebook.com/Dr.Ahmed.Ramadn تويتر (Twitter): https://twitter.com/DRAhmad_Ramadan الأستاذ محمد القطاوي: المدير العام ومسئول الدعم الفني بالجريدة. الحاصل علي دورات كثيرة في الدعم الفني والهندسي للمواقع وإنشاء المواقع وحاصل علي الليسانس من جامعة الأزهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »